هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

"تملكني الحب تجاه الهيب هوب منذ صغري. حينما كنت في الثانية عشر من عمري كان الشباب بدأوا بالذهاب إلى الحدائق العامة و في حوزتهم المايكرفونات و جهاز الاسطوانات (القرص الدوار)، أعتقد ذلك كان في ١٩٧٧. مازلت اتذكر مدينة البرونكس (Bronx)، في ٧٩، الناس كانت تضع الاجهزة الموسيقية امام المباني السكنية، و كنا ناخذ الكهرباء من الشوراع من الاعمده الكهربائية لتشغيل هذه الاجهزة. ثم نلهب الشوارع رقصآ.... رقصة البريك (Break Dancing)، النغمات و الايقاعات، كم تعلم...

كنت احبها حبآ جارفآ...وكنت اتابع و اشاهد هذا النمط الموسيقي الغريب .كان رائع و كانت طاقة ابداعية جديدة...كانت موسيقي الراب و التباري في فنونها...بلا شك، بمثابة ميلاد لحراك ثقافي متكامل...كانت بمثابة طريقة للتعبير عن احلامنا، تطلعاتنا، مشاكلنا، كل الأشياء المتعلقة بحياتنا."

الإقتباس السابق لفتاة تدعى سيدني عندما سألت خلال فيلم " براون شوقا" عن بداية ارتباطها بموسيقى الهيب هوب. لا يمكن أن نجد كلمات اكثر تعبيرا وجمالا عن الحالة التي اجتاحت جيل باكمله. وما تزال تاثيرات سحر موسيقى الهيب هوب تجذب الملايين حول العالم.

بداية وانتشار موسيقى الهيب هوب

تمتد جذور موسيقى الهيب هوب كثقافة وترجع أصولها إلى طبيعة الانسان ذو الاصول الافريقية، الذي يميل إلى استخدام الموسيقى كمصدر من مصادر الوعي بالواقع لتوثيق أحداث وتفاصيل الحياة اليومية بكل شغفها وتحدياتها. وكان من الطبيعي أن تظهر ثقافة الهيب هوب للتعبير عن حياة الامريكان الأفارقة في المدن والأحياء الفقيرة، كصوت معبّر عما يعانون من ظلم وتمييز داخل المجتمع الأمريكي. اختلفت اشكال تلك التعبيرات بكل عنفوانها، ايجابياتها وسلبياتها. وقد حملت ليالي المدن الاميريكية صخب وانفعالات الامريكان الأفارقة من خلال الرقصات والموسيقى، مستفيدين من الوسائط الحديثة كمكبرات الصوت لنقل ايقاعات وضربات الموسيقي التي تربط التراث الموسيقي الغني للانسان الافريقي بحاضره. مما أدى الى انتاج انواع مختلفة من الموسيقى كالريقي والجاز، وكان ظهور الهيب هوب امتداداً لذلك.

الهيب هوب كثقافة تشمل عدة عناصر مثل دي جي، وهو فن تشغيل الاقراص الموسيقية والتلاعب بها على أنغام مختلفة. والكتابة على الجدران (graffiti) كتعبير بصري عن مضامنين موسيقى الراب والهيب .ورقص البريك دانس (break dance) كتعبير جسدي وحركي لموسيقى الراب .وتشمل أيضاً بيت بوكس (beatboxing)، وهو ايقاع صوتي يعتمد على قرع الطبول والايقاع والاصوات الموسيقية بالفم. وأخيراً موسيقى الراب حيث يُرجِع جان ديفوس ظهور الراب الى عام 1979 في حي البرونكس بمدينة نيويورك ،من خلال حفلات الامريكان الأفارقة الصاخبة حيث كان ال أم سي (مشرف الحفل - MC) يتكلم في المساحة الزمنية التي تفصل بين كل أغنية والأخرى؛ لجعل الجمهور متشوقا، فيقوم بإلقاء التحيات والنكات ورواية الحكايات. ومع مرور الزمن استمرت تلك الممارسة لتصبح أسلوباً مميزاً وجديداً، لاحقا تم تعريف ذلك الاسلوب بالراب، حيث يشمل الكلام، والنثر والشعر والغناء بإيقاع أو بدونه.

undefined

Grandmaster Flash via DigitalDJTips 

بعد ذلك انتشرت موسيقى الراب والهيب هوب إلى بقية المدن الامريكية، مثل لوس انجلوس ونشأت العديد من الفِرق لموسيقى الهيب هوب مثل بَبْلِك انيمي، وهي مجموعة هادفة ذات طابع سياسي تكافح التمييز العنصري ضد مجتمعات السود في أمريكا. و فرقة جراند ماستر فلاش التي اشتهرت بالتعبير عن الطبقة الاجتماعية المنسية، أي طبقة الفقراء السود في العشوائيات، وكان شعارهم "نعطي صوت لمن لاصوت له". وبعد ذلك تعددت مدارس و أشكال الراب والهيب هوب، فمنها ما هو هزلي، وما هو تثقيفي، واباحي. ومن أشهر المدارس أولد سكول. ومن أهم أنواع الراب ما يعرف ب (gangsta rap) أو راب العصابات و الذي أدخل كلمات الاغاني التي تتكلم عن طريقة حياة العصابات والمشاكل والتحديات التي يوجهونها مثال تجار المخدرات، ووحشية البوليس في تعامله مع أغلب تلك القضايا. كان هذا النوع افراز لواقع الظلم الاجتماعي ورد فعل الأمريكان السود لتلك الإشكاليات، مثل تجربة تجار الكراك كوكايين التي اجتاحت مجتمعات السود في الثمانينات. وقد تحول بعض من كانوا يعملون في هذه التجارة إلى مغنيين هيب هوب مشهورين مثل سنوب دوج وآخرين. عليه فإنّ موسيقى الراب اشتهرت باعتبارها أداة لتسليط الأضواء على حياة مجتمعات الأمريكان السود؛ لذلك كان يطلق عليها سي ان ان بلاك، والرابرز أي مغنيي الراب فتمت تسميتهم بصحفي الشوارع.

انتشار الهيب هوب خارج امريكا وميلاد الافرو هيب هوب

اتسع نطاق تأثير الهيب هوب خارج امريكا إلى دول أوروبية مثل فرنسا، بلجيكا وغيرها. وكانت القارة الافريقية من أهم مناطق التأثير لخصوصية موسيقى الهيب هوب وجذروها القوية في تقاليد الثقافة الافريقية، والارتباط الوثيق بين الأمريكان الأفارقة وشعوب القارة الافريقية. كل تلك المؤثرات أدت إلى ميلاد افرو هيب هوب في عام 1989 عبر رابر من السنغال ام سي سولار (m.c solaar) وفرقة الروح الايجابية السوداء (positive black soul) من خلال المزج بين الراب وموسيقى البوب والموسيقة السنغالية مبالس (mbalax). وبعدها انتقلت إلى جنوب افريقيا عبر فرقة بلاك نويز (black noise) ثم إلى البلدان الافريقية مثل تنزانيا ونيجيريا والجزائر .

من أسباب ميلاد افرو هيب هوب أن الرابرز الافارقة لم يستطيعوا إستخدام دقات الراب الامريكية فقد تعرضهم إلى مخالفة قانون الملكية، لذلك كان الاتجاة لخلق دقات خاصة بهم.

موقع الموسيقى الجنوبسودانية من تأثير الهيب هوب 

بالمقارنة مع موسيقي الجاز والريقي بدأ تأثير موسيقى الهيب هوب متأخراً على الموسيقى الجنوب سودانية بشكل خاص، والإستماع بصورة عامة بدأ في الجزء الأول من القرن. حيث كانت بدايات التأثر بثقافة الهيب هوب من خلال الاستماع الي موسيقى الراب في الحفلات العامة وأعياد ميلاد الشباب، بجانب ارتداء الملابس و الاكسسوارات (كالجنازير و السلاسل) التي ترمز إلى ثقافة الهيب هوب. إضافة الى اختيار المغنيين الشباب للهيب هوب كأسلوب للغناء، ومؤخراً ظهرت الكتابة على الجدران عبر مجموعة أنا تابان.

يعتبر نيكي تاسكو (Nicky Tesco) ولوال (Lual Dawol) من رواد غناء الهيب هوب في الموسيقى الجنوب سودانية. وشكلا جزءاً مما عُرف بأولاد السودان الضائعين (lost boys) و النواة الأولى التي تأثرت بتلك الموسيقى. حيث ينحدر أغلب هولاء من الفارين من جحيم الحرب الأهلية، حيث تعرضوا لظروف صعبة وطفولة مشردة، فاقدة لأبسط مقومات الحياة. فأتيحت لهم فرصة الهجرة لدول أوروبا وأمريكا وكندا. وقد استفادوا من ظروف الحياة والواقع الجديدين واكتشف بعضاً منهم موهبته الموسيقية واتجه الى الهيب هوب، مثل ايمانويل جال، و لكي أونر (Lucky Owner) و لويس بي وآخرين.

undefined

Emmanuel Jal via Denverpost.com 

وقد تأثر لاحقاً المغنيين الجنوبيين الذين كانوا يعيشون في مناطق أخرى بموسيقى الهيب هوب بفضل انتشار الوسائط الحديثة، كما شكّل برنامج الوابي الشهير للمغنين الرابرز الشباب في الخرطوم فرصة للظهور، امثال دينق قلوا واخرين. ويرجح الموسيقيين ومغني الهيب هوب أسباب انتشار هذا النوع من الموسيقى إلى سهولة الغناء باسلوب الهيب هوب والراب، حيث أن كلمات الأغاني في مونولوج الراب ليس ضرورياً أن تكون قصيدة ذات قافية. وكذلك الشكل الموسيقي لأغنية الهيب هوب لا يحتاج للحن معين، فأقراص الدي جي هي التي تنظم ضربات الأغاني وايقاعها. بالاضافة الى توفر التقنيات الحديثة والمواد المتعلقة بالهيب هوب، والبيئة المشجعة لثقافة الهيب هوب.

أشكال تأثير موسيقى الهيب هوب

الهيب هوب كتصوير للواقع

نشأت موسيقى الهيب هوب بطبيعتها للتعبير عن واقع الأمريكان الأفارقة، وقد كان هذا أكبر دافع لتأثر المغنيين الشباب بالأسلوب الغنائي التصويري والتقريري لما يحدث في الواقع. وقد أضاف الهيب هوب و الراب للموسيقى الجنوبية إضافة ايجابية من حيث التعبير عن قضايا ومشاكل المجتمع الجنوبي. ووفقاً لذلك فإن مغني الراب هو أداة أو وسيلة للتعبير عن كل القضايا المسكوت عنها و الحالات والمشاكل لعامة الشعب، والتي لا يمكن لأي مؤسسة الإفصاح عنها. عليه فإنّ موسيقى الهيب هوب قد شكلت قناة لتصوير الواقع المعاش في مختلف القضايا العاطفية الاجتماعية و السياسية والشخصية، وأيضاً واقع المجتمعات في معسكرات اللاجئين وفي دول المهجر.

الهيب هوب كوسيلة للتغيير

لعبت موسيقى الهيب هوب في أمريكا دوراً كبيراً في تحول مجموعة من تجار الكوكايين الى مغني هيب هوب، والذين مثّلوا نموذج لأناس ناجحين و يقدمون إضافة للمجتمع. أيضاً كان لها دور مهم في إحداث تغيير كبير في حياة أطفال الحرب أمثال ايمانويل جال ولام تيجور فأصبحوا مغنين مشهورين ودعاة للسلام، وحصلت لهم نقلة كبيرة من أدوات للقتل إلى مبشرين بالتعايش السلمي. وقصة ايمانويل جال خير دليل على ذلك بعد نجاته من جحيم الحرب وانتقاله الى نيروبي ومن ثم الى الغرب. حيث اكتشف جال موهبته الموسيقية من خلال الهيب هوب، فأصبح أكثر وعياً بالانسانية وتفهم جذور الحرب والفظاعة والوحشية التي مر بها في حياته خلال الحرب من قتل واغتصاب لأفراد أسرته. فتحولت مشاعر الكراهية والانتقام عند جال الى رغبة وشغف بالسلام والتعايش مع الاخر، كما كرس أغانيه لهذه القضايا .  

undefined

Lual Dawol via Music in Africa  

الهيب هوب كأداة للتوعية وللرفض السياسي

كان التيار الاساسي لموسيقى الهيب هوب هو التيار الهادف الذي حمل رسائل سياسية وشكل تياراً لرفض واقع الأمريكان الأفارقة، ودعوة لتغيير هذا الواقع مثل مجموعات بَبْلِك انيمي، وجراند ماستر فلاش، ولاحقاً الأسطورة تو باك. أيضاً في جنوب السودان أصبحت موسيقى الهيب هوب أداة من أدوات الرفض السياسي، فقد شكلت أغاني المغني المعروف لوال دوال خير نموذج وصوت قوي لنقد الأوضاع السياسية في جنوب السودان من انتشار للفساد وعدم المساواة. مما اضطر القوات الامنية في الجنوب إلى ايقاف حفلات لوال في بعض الأحيان، واللجوء الى اعتقاله في أحيان أخرى. تعتبر الأغنية المشهورة “لابد أن نتخارج" للمغني اليكس جاي علامة فارقة لغناء الرفض السياسي، حيث صارت أهزوجة للشباب المستاء من الأوضاع المأساوية في البلاد. و هذه لما إحتوت الاغنية من هجاء ونقد لاذع للواقع السياسي في جنوب السودان من إنعدام أبسط الخدمات الأساسية، كالامن، والمياه الصالحة للشرب، والكهرباء، وتفشي القبلية والمحسوبية والكراهية.

موسيقي الهيب هوب تم توظيفها للتثقيف والتوعية من قبل المغنين امثال نيكي تاسكو ونانسي واخرين، حيث شكلت التوعية بمرض الايدز ومساوئ القبلية وضرورة التعايش السلمي بين المجتمعات أهم قضايا التوعية.

الهيب هوب كتوثيق للثقافات المحلية  

لثقافة الهيب هوب جذور متأصلة في الثقافات الافريقية من حيث المضمون، فممارسة ال ام سي و رواية الحكايات في بدايات نشوء الراب خلال الحفلات ارتباط وثيق بالتقليد الثقافي في المجتمعات الأفريقية المعروف بسرد القصص. أما من ناحية الشكل الموسيقي فإن التغني بأسلوب الايقاع هو فن قديم من الغناء الافريقي. كان من الطبيعي أن يأخذ التأثير قالباً مرتبطاً بالثقافات
المحلية، مثل غناء الهيب هوب باللغات المحلية. وتعتبر تجربة فرقة ستريت بويز لغناء الراب بلغة النوير مثالاً، وأيضاً فرقة كي تي كي لغناء الراب بلغة الدينكا نموذجاً حياً لذلك التأثر. ويرى الرابر والموسيقي أهمية أن يأتي الرابر بنغمات جنوبية للموسيقى لتقديم اضافة نوعية مثلما فعل مغنيي أفرو هيب هوب في بلدان أخرى من القارة الأفريقية.

نشأت موسيقى الهيب هوب كجزء من ثقافة الهيب هوب كنتيجة للتأثير وتأثر الانسان ذو الأصل الأفريقي بواقعه وتاريخه. كان من الطبيعي أن تتأثر الموسيقى الأفريقية بذلك، مثل موسيقى جنوب السودان، لتغيّر و تنشر ثقافة و موسيقى الهيب هوب بعيداً و لجماهير أكبر.

المراجع 

1-استند المقال على افادت من الرابرز ومختصين في الموسيقي

2- تطور ثقافة الهيب هوب ، جان ديفوس 

 

 

 

 


أديسون جوزيف

ناشط و كاتب جنوب سوداني