يتمتع جنوب السودان بإختلاف – وليس فقط تنوع- ثقافي وإثني. الإختلاف القبلي أمر جلي وظاهر للعيان حيث تنقسم القبائل الجنوبية (يشاع أن عددها 64 قبيلة ولكن هذا الرقم غير مؤكد وربما فيه القليل من المبالغة) إلى ثلاث أقسام:
– القبائل النيلية وتضم على سبيل المثال لا الحصر لوه, شلو, الدينكا والنوير.
– القبائل (النيلية) الحامية وتضم على سبيل المثال باري, اللاتوكا وأشولي.
– والمجموعة (أو القبائل) السودانية وتضم على سبيل المثال الزاندي, الكريش ومورو وغيرها من القبائل.
كل هذه القبائل المذكورة على سبيل المثال وغيرها, تتوزع بين أقاليم أعالي النيل, بحر الغزال والإستوائية. ومن غير المؤكد تاريخياً وأنثروبولجياً متى أتت معظم القبائل إلى الجنوب الحالي. ومع ذلك هنالك نظرية واحدة سائدة يأخذ بها المهتمين بالتاريخ، ألا وهي أن أغلب القبائل مثل الباري, الدينكا, النوير وأنيوا قدمت من أثيوبيا في فترات مختلفة أقدمها تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي نتيجة زحف الأورومو وبحث بعض المجموعات عن أماكن أفضل للكلأ. بينما هاجر بعض مجموعة قبيلة لوه لتذهب إلى كينيا وما زالت موجودة هناك حتى اليوم ويوجد بعضهم في تنزانيا بطبيعة الحال. أما الزاندي فهي واحدة من القبائل الأكثر إنتشاراً في القارة حيث يوجد القسم الأكبر منها في الكنغو الديموقراطية وهو مهد الزاندي؛ وأخرون في جمهورية أفريقيا الوسطى ونيجيريا وجنوب السودان بطبيعة الحال. كما أن هناك رأي يقول بأن الشلو عادوا أدراجهم من الشمال لأنهم كانوا يقطنون في جزيرة توتي الموجودة في الخرطوم حالياً!
مهما يكن فإن المجتمعات المكِونة حالياً لجنوب السودان أتت من أماكن مختلفة وإستقرت في مختلف بقاع الجنوب لقرون. إبتداءً من القبائل الرعوية التي تعتمد كلياً على المواشي ولم يعرفوا الإستقرار إلا في مطلع القرن العشرون؛ مروراً بالقبائل الزراعية والتي كانت أكثر إستقرار لإرتباط حياتهم بالزراعة ووجدت أغلبها في الإستوائية.
جذور العنف
للعنف تعاريف كثيرة مختلفة وقد تطورت مع تطور اللغويات في الفترات الأخيرة حيث أصبحت تعني كل ما يمكن أن يسبب الأذى للإنسان سواء كان فيزيقياً (جسدياً) أو لفظياً (معنوياً)، ومع أن أكثر الذين يتأثرون بالعنف هم فئة النساء والأطفال إلا أن الأمر ظل يؤثر في الكل.
العنف الذي كان سائد وأكثر إنتشاراً وسط معظم قبائل الجنوب هو العنف الجسدي والذي ما زال مستمراً، مع أن الأسباب في السابق كانت مختلفة. يمكننا تقسيم دوافع العنف هنا إلى نوعين 1. عنف ذو أبعاد اجتماعية 2. وعنف ذو أبعاد سياسية.
Image Credit: http://www.southsudannewsagency.com
- عنف ذو أبعاد اجتماعية:
يصعب أن نجد في جنوب السودان اليوم ما يجمع قبائلها المختلفة, حيث أن معظم هذه المجموعات ما زالت تعيش على طريقة الجماعات سواء أكانت في المدن أو الأرياف, حيث أن الولاء للقبيلة والفرد يعيش للمجموعة – أي قبيلته التي تمثل مصدر العزة والعضد بالنسبة له. ومع أن التحول من فكرة الجماعات إلى المجتمع, أي أن يعيش الناس على أساس أنهم مكونون للمجتمع ولا ينظر لخلفيتهم الإثنية أكثر من تصرفاتهم ومؤهلاتهم؛ إلا أن ذلك بعيد المنال مع أنه ممكن.
القبائل التي تتشارك حدود مع بعضها لم تكن على وفاق، حيث ظلت في حالة إحتراب دائم. وكانت الأسباب هي المواشي التي كانت تُنهب من قبل مجموعة ثم يتم إستعادتها مجدداً وهكذا. وفي كل مرة يتم قتل عدد من الأفراد أثناء النهب أو إستعادة المواشي والتي في أكثرها كانت أبقار.
كما أن القتال كان ينشب وسط أفراد القبيلة الواحدة أيضاً بسبب فتاة أختطِفت أو إمراة اُخذت من بيتها. حيث يرون أن ذلك إهانة للعشيرة إن تم ذلك من قبل فرد من نفس القبيلة أو إهانة للقبيلة إن كان المعتدي من قبيلة مختلفة. وكان الكثيرون يسقطون نتيجة ذلك, ومع أن هذه الممارسة قلت في الفترات الأخيرة إلا أنها ما زالت تحدث على نطاق ضيق.
- عنف ذو أبعاد سياسية:
لعبت السياسة في السنين العشر الأخيرة دور في تأجيج الصراع والإقتتال بين مختلف مكونات المجتمع الجنوبي وذلك منذ عام 2005م. حيث أن للسياسيين أهداف يريدون الوصول إليها وتحقيقها وكل ذلك لا يتم إلا بتحريك مجموعة إثنية ضد الأخرى, كما أن إنتشار الأسلحة الصغيرة والحصول على الذخيرة بأقل مجهود ساهم في إزدياد العنف. هذا ما أثر كثيراً وأصبح جلي بعد أحداث ديسمبر 2013م، خاصة أن الصراع كان سياسي خالص وتحول بعد ذلك إلى صراع إثني بالدرجة الأولى. وهذا ليس بجديد في القارة حيث أن معظم القادة يستخدمون إثنياتهم وتحريك النعرات العنصرية في الناس للقضاء على الطرف الآخر الذي عادةً يكون منافس لهم. وللتاريخ الطويل من الصراع بين المجموعات الإثنية الجنوبية دور في زيادة الهوة, كما أن هذه الظاهرة لم يتم التطرق إليها أو مناقشتها بجدية بغية الخروج بنتائج من شأنها أن تنهي عمليات القتل العشوائي والإنتقامي بين هذه المجموعات.
كيف نخلق ثقافات أكثر تسامحاً؟
إن إبداع ثقافة أكثر إنفتاحاً وتسامحاً أصبحت ضرورة ملحة الآن أكثر من أي وقت مضى, لأن قبول الآخر على أنه آخر – مستقل ولا يهدد وجودي بأي طريقة- أمر ملح, والدخول في علاقة من شأنها تقريب وجهات النظر المختلفة ضروري للحول دون وقوع مآسي في المستقبل. ولتحقيق ذلك لابد من إتباع طرق وأساليب معينة تساعد في الحصول على الهدف بأسرع ما يمكن. وذلك عبر:
أ. خلق برامج حوارية بين الشباب تتمحور حول الثقافة وقبول الآخر. ويجب أن تتضمن هذه البرامج طرح ومناقشة كل وجهات النظر الممكنة بالأخص المختلف حولها, لإيجاد طريقة للمعالجة.
بـ. إنتاج أعمال درامية تناقش قضايا اللاتسامح وسط مختلف المجموعات الإثنية. إن هذه الأعمال الدرامية يمكنها تحقيق الهدف المرجو بسرعة, نظراً لإنتشار الإذاعات والإقبال الكبير عليها. كما أن وضع برامج تشمل كل المجتمعات أمر سيشجع على الحوار وبالتالي يدفع نحو الإنفتاح والتسامح.
جـ. تطوير برنامج إعلامي لمواجهة خطاب الكراهية والحض على العنف. لأن الإعلام سواء أكانت الإذاعات, المحطات التلفزيونية والصحف الورقية والإلكترونية, يمكنها لعب دور إيجابي في مواجهة العنف المستشري عبر تصميم وتطبيق برامج تستهدف العامة ومن شأن مثل هذه البرامج أن تغير مفاهيم الكثيرين ونظرتهم لبعضهم البعض!
د. العمل على إيجاد أرضية مشتركة بين الثقافات ووضعها في قالب ووعاء جامع ليخدم أغراض إحترام الغير وتحقيق التنمية. خاصة أن الثقافة عامل من عوامل تحقيق التنمية المستدامة في المجتمعات الإنسانية لا سيما في أفريقيا في هذه الألفية الثالثة.
وحسب ما ورد أعلاه فإن تطبيق مثل هكذا أفكار من شأنها أن يساهم في مسيرة بناء المجتمع, خاصة أن للعنف دور في تدمير النسيج الاجتماعي وتقويض التنمية والتقدم. واللاتسامح الثقافي المنتشر في مجتمع تكثر فيه الأمية مثل المجتمع الجنوبي سلاح فتاك. وقد أفتكت هذه الآفة وما زالت تفتك بمجتمعنا بشكل يومي. غير أن العمل على جعل الثقافات السودانية الجنوبية ثقافات أكثر إنسانية وإنفتاحاً هو المفتاح الوحيد نحو التقدم وتحقيق الإنسجام والتجانس المنشود, وليس بالضرورة أن يتم التطابق لأن إحترام ثقافة الغير وتقديره عمل إنساني نبيل يجب غرسه وتبشيره.