هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

صدرت عن دار رفيقي للطباعة والنشر عام 2017 رواية للكاتب والقاص منير عوض التريكي. تتناول الرواية وقائع تاريخية عن حادثة فشودة عام 1898 وهي تتحدث عن المواجهة المحتملة بين كل من فرنسا وبريطانيا في أراضي قبيلة الشلك بمنطقة فشودة بجنوب السودان. حيث كانت لهذا الحادثة تداعياتها على كل القارة الأفريقية، في طموح القوى المستعمرة من أجل توسيع دائرة سيطرتها وبسط نفوذها في أفريقيا.

 الرواية الصادرة من دار رفيقي هي من ٢١ فصل موزعة على ٢٠٩ صفحة، صمم الغلاف معمر مكي عمر حيث وضع على الغلاف صورة مارشال قائد الحملة الفرنسية القادم من كنغو وصورة القائد كتشنر البريطاني القادم عبر مصر وصورة للإمرأة الوحيدة التى حكمت قبيلة الشلك على مر التاريخ وهي الرث أبوضوك نياكواج. إستطاع الكاتب في هذه الرواية ان يجمع بين الحاضر والماضي وقام بجمع أبطال الرواية من، فرنسيين، مصريين، بريطانيين، سنغاليين، سودانيين أنصار المهدي، المانيين، بالإضافة للشلك في منطقة فشودة حيث تنتهي الرواية برابط عن إستقلال دولة جنوب السودان.

يبدأ الراوي روايته مع عامل المغسلة يدعى تومسون إن ستيوارد، في تجربة التحدي أن يكون مدرساً للتاريخ والذي يصفه الكاتب أنه لا يعرف تاريخ بلده. يظهر تومسون في الرواية كواحد من القلائل الذين لا يعرفون تاريخهم، حيث يشير الكاتب إلى السودانيين الذين يتجاهلون كتابة تاريخهم. فقد إستعان تومسون على حسب الراوي بجهاز كمبيوتر موصول بالانترنت من أجل سرد تاريخ منطقة فشودة على حسب طلب تلاميذ المدرسة، حيث كان مجبور أن يكون مدرساً لمادة التاريخ بديلاً لزوجته التى كانت في إجازة الولادة، خوفاً من قطع الراتب أو فقدان الوظيفة. تومسون هو بطل الرواية في سردها، إستطاع من خياله أن يألف قصة عن فشودة لطلاب المدرسة في مجلس محاكمته الذي شكلته إدارة المدرسة لمحاسبته. بل فشل في خاتمة الرواية سرد القصة من جديد عندما طلب منه المخرج السينمائي شارلز زا ويزارد أن يشتري منه الرواية التي إعتقد تومسون أن المخرج يريد حقاً ابنته (فشودة). تومسون رفض بيع فشودة لكن رث المزيف باع فشودة للغرباء. الرواية بصورة عامة لها أبطال آخرون، مثل يومون في دور رث المزيف وأجامون العقل المدبر، وأشول الإمراة الحكيمة، ورث الشلك النحيف على حسب وصف الكاتب

undefined

Image Credit: Alamy.com 

إعتماد كاتب الرواية على الأسلوب الكوميدي جعل الرواية سهلة للقارئ لتقلب صفحاتها والدخول في جو الإطلاع بين التاريخ والخيال حيث تم جمع الوقائع التاريخية. الفصل الثاني من الرواية يصف فيه الكاتب كيف وصلت القوات الفرنسية الى منطقة فشودة وحجم المقاومة التى وجدتها هذه القوات. يضيف في هذا الفصل الكاتب أسلوبه الجميل بوصف الموقع الجغرافي لمنطقة فشودة قطيعة رث الشلك التى تتوسط القطاطي، و الحياة الريفية، و دجاجة عمه نيالام وحركة سكان القرية.

يتناول الكاتب في الرواية أيضا منطقة كدوك وحضارة قبيلة الشلك، والتمازج الثقافي الاجتماعي في فشودة بتواجد قبائل خلاف قبيلة الشلك وهم قبائل الدينكا، النوير، البريطانين والمصريين و  الاتراك. ويتطرق الكاتب على طبيعة التداخل بينهم ، حيث الجندي السنغالي، عبدون الذي حاول الزواج من فتاة قبيلة الشلك واشترط في زواجه منها ان يتم وضع علامات القبيلة على راسه (طابور يصل عدده الى 10 او اكثر يتم وضعه في جبين الفرد، يستخدم فيه سنارة حيث يتم قطع الجلد بعد مسكه بسنارة). وحصل جامون الذكي على المال مقابل وضع هذه العلامات، فكانت السبب أن يصبح عبدون واحد من أبناء القبيلة، لكن التحدي الكبير كان طلب فتاة القبيلة أن تتم المقابلة في فشودة مكان إقامة الرث ، منها خرج إسم الرواية.

شخصية أجامون ويومون اللذان يعطيا لذة الرواية وهما في شخصية رث المزيف، يومون(و هو رث المزيف) إستطاع أن يوقع عقد مغشوش مع القوات الفرنسية بتدبير من العقل المدبر في الرواية أجامون،  الذي يلعب دور مثقف القرية مترجماً لرث المزيف لمعرفته مقاطع بسيطة من الإنجليزية. يومون هو محطة تدبير الأفكار لمواجهة القوة الفرنسية. تطرق الكاتب إلى جانب مهم عن من هو شخصية الرث عند الشلك، رغم أن يومون كان في جسمه جروح كثيرة وهذا ما يمنعه أن يكون رث، لكن قناعة يومون أن الفرنسيون لايعرفون شئ عن شكلية الرث أعطته الثقة لاقتحام معسكر القوة الفرنسية وتوقيع عقد بيع أراضي شلك مقابل الخمور وبلاستيك، وخرز وميدالية وحمار القائد.  كاد يومون أن يقع في ورطة إنتحال شخصية الرث لولا ذكاء أجامون الذي اقنع الرث الحقيقي أن يومون لم ينتحل شخصيته بل يريد خداع القوة المستعمرة إذا حدثت حرب، حتى لايعرفو من هو الرث الحقيقي والمزيف.  الفكرة كانت مقبولة لدى الرث الحقيقي.

أراد الكاتب أن يوصل حجم خطورة تواجد الرث في خطوط المواجهة حيث أن عند القبيلة الشلك عندما يقود رث الحرب فهذا يا إنتصار أو هزيمة كبيرة بلا تراجع. وهذا ماحدث بين المهدية والشلك، حيث تم القبض على الرث كور عبد الفضيل  (كور نيضوك) الذي أعلن إسلامه وأصبح اسمه عبدالفضيل لكنه لم يعلن  الإسلام على مملكة فشودة فقد كان إسلامه شأن فردي.

تتطرق الرواية أيضاً لقضية مهمة وهي مكانة المرأة عند قبيلة الشلك، ومعروف تاريخياً أن قبيلة الشلك حكمتها  ملكة واحدة و لم يتكرر ذلك. يقال عند القبيلة أن تلك المراة هي التى وصت بعدم تولى إمراة العرش من بعدها لأسباب متعددة. وهذا ربما منع تواجد المرأة في مجلس القبيلة اوالشيوخ أو منعها من حضور اجتماعات مناقشة مشاكل القرية مع الشيوخ. هذا في شخصية أشول الذكية في الرواية، حيث كان من المفترض الإستفادة من أفكارها، لكن الكاتب بافكاره الجميلة وكوميديا سرد الرواية وضع لمسات راقية، فإستطاع أن ينقل أفكار العجوزة أشول لإجتماع المجلس بقيادة الرث نفسه في صفحة ٧١ من الرواية. أرادة إيصال رسالتين عبر الرواية: الأولى عن مكان المرأة والثانية – والتي لم يتطرق لها الكاتب-  عن عادات وتقاليد قبيلة الشلك التي تمنع وجود الفتيات عند مقدسات نيكانق الاب الروحي للقبيلة. 

undefined

Image Credit: delcampe.net 

الرواية أيضاً تحدثت عن شكل العلاقات الاجتماعية التي حدثت بين الفرنسيين والبريطانيين وقبيلة الشلك، من التداخل واللغة والاعتقادات السائدة وعدم المعرفة بأشكال الناس في أفريقيا حيث في صفحة ٧٩ ورد الآتي “نحن لا نأكل لحوم البشر هل سمعت أحد منا أكل لحم البشر؟ … نحن لا نأكل لحم البشر ولماذا نفعل ذلك ولدينا غزلان و أبقار وسمك وطيور وحبوب”. أراد الكاتب أن يصف طبيعة إنسان أفريقيا حيث نجد المحارب الأفريقي يضع على جسده أشياء كثير من ريش الطيور وعظام الحيوانات وجلود النمور مما يصنع شكل الوحش، وهذا ما تتميز به قبيلة الشلك من حيث شكل محاربي القبيلة القدماء.

يربط الكاتب بين المهدية في الخرطوم والأحداث التى تجري في فشودة كالإتفاق بين الفرنسيين والبريطانيين، و وصول البريطانيين إلى الخرطوم. فترد في الرواية شخصية شول الذي تم نفيه من منطقة فشودة، وكيف تم نقله من فشودة إلى الخرطوم و منها إلى أقصى شمال السودان مع النوبة. هنا يضع الكاتب لمسه جديدة عن تجار الرق والفدية التي كان يدفعها الشلك للمهدية في شكل محاربين سنوياً، فانتشار القبيلة في السودان ناتج عن المحاربين الذين حاربوا في صفوف المهدية.

إستطاع الكاتب في التعامل مع الأحداث من فشودة إلى خرطوم ومن الخرطوم الى بريطانيا ومن فشودة للسنغال ومن السنغال الى فرنسا، بوصف لغة الحوار التي تمت بين القوات الفرنسية والبريطانية لتجنب المواجهة والدور الذي لعبه رث قبيلة الشلك. ويرد في الرواية ” لديكم حتى نهاية اليوم لتغادرو وتخرجوا من فشودة، أنتم وأصدقاءكم”. أسلوب التهديد من رث شلك مزيف يتركنا بسؤال: هل كان الشلك مستعدون لمحاربة القوة الفرنسية والبريطانية في الوقت الذي كانت المهدية تشكل تهديد كبير على فشودة بعد أن تم القبض على رث الشلك الرث كور نيضوك (عبدالفضيل) الذي إعتنق الإسلام وإشترط دفع الجزية في شكل إرسال محاربين سنوياً لجيش المهدي؟لكن الواقع التاريخي لأحداث القصة يؤكد بطولية قبيلة الشلك و كيف إستطاعت التعاون مع القوتين ووصلت إلى إتفاق لعدم إندلاع مواجهة بينهم. 

يعود الكاتب في الفصل الأخير من الرواية إلى تومسون بقصته الخيالية بواسطة آلة الحاسوب الموصولة بالانترنت أمامه في الفصل الدراسي. حيث دارت القصة لتصل به إلى أحداث إعلان إستقلال دولة جنوب السودان في شخصية ممثل حكومة جنوب السودان لكن الكاتب لايزال يشير إلى فشودة، وبتحديد يوم 9 يوليو ٢٠١١ إعلان إستقلال البلد الوليد. ويربط الكاتب القصه بالحدث الكبير وهي أصلا قصة تومسون عن فشودة عندما كان يريد الخروج من بيته لحضور مراسم إعلان دولة جنوب السودان، حيث قالت له زوجته أن رئيسه في العمل إتصل ويريد منه الحضور للعمل في المغسلة التي كان يعمل فيها قبل أن يخوض تجربة التدريس. لم يتردد تومسون وبكل تحدي حيث قال “قولي له إن كنت رجل … قابلني في فشودة”.

الرواية بصورة عامة تتحدث عن التاريخ الدبلوماسي الذي تم بين البريطانيين والفرنسيين داخل أراضي فشودة و كيف تجنبت البلدان الحرب. فقد جمع الكاتب منير أحداث تاريخية قديمة بواقع حاضر دولة جنوب السودان و الحرب التي إندلعت في ديسمبر 2015، ربما  كان يريد أن يشير الى تدخل بريطانيا منذ زمن بعيد في قضية جنوب السودان، حيث تحتم على بريطانيا ترك كل شئ من أجل حضور إحتفالية رفع علم الدولة الجديدة، في شخصية تومسون بطل الرواية الذي أشار إلى فشودة بدلاً من جوبا.

أخيراً نقول أن الكاتب حقق نجاح في المجهود الكبير بتحويل أحداث تاريخية إلى قصة و رواية متناسقة، وهذا من خلال تومسون بطل الرواية و الخروج من ورطة مادة التاريخ. إستطاع المؤلف أن يصنع من خياله قصة أعجبت الكثيرين وهي عن (فشودة) فما الذي كان يتوقعه مجلس إدارة المدرسة وحال تومسون لولا وجود الحاسوب والانترنت أمامه في مجلس المحاسبة.