هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

undefined

Image Credit: Haiiro Sushi

(i)

ينقر أبوه بقدمه على الأرض بإنعدام صبر، الصحيفة مطوية أمامه وفنجان الجَبَنة الفارغ ونظارته الطبية على الجانب. مرفقاه موضوعان على الطاولة، يداه معقودتان بينما يحدق في ولده في تجهم.

بالكاد يستطيع نوح إبقاء عينيه مفتوحتين، رأسه يكاد أن ينشطر من الصداع. الوقت تعدى الظهيرة، و كان ينبغي أن يكون في مكان عمله.

ينظر والده إلى الأسفل، يحل يديه ويبسطهما أمامه على الطاولة.

-إنها سيارتك الرابعة يا نوح.

إستطاع نوح فقط أن يتأوه، ملاحظاً أن الصداع أصبح أسوأ وأن عنقه سيقتله من الألم.

-في ثلاثة أشهر حطمت ما مجموعه أربع سيارات.

مقتطفات من الليلة الماضية داهمت نوح. تدخل أمه متبوعه بطاقة من القلق، تدفعها الحاجة في حماية وإسترضاء إبنها الوحيد.

– لم يعجبك البيض؟ أستطيع إعداده مرة أخرى، أوه يا عزيزي تبدو مريعاً، لطالما أخبرتك أنك تحتاج ساعات نوم أكثر، وأنك يجب أن تكون أكثر حذراُ، يجب أن تستمع إلى بابا.

هزة مفاجئة تكسر الصمت، تهز الطاولة وأدوات المائدة. والده يجز على أسنانه ويفتح ويقبض كف يده الذي بالتأكيد الآن يؤلمه.

-من تعتقد نفسك بالضبط؟

أمه ما زالت تحوم حوله، تربت على شعره، تضع يدها على مقدمة رأسه لمحاولة قياس درجة حرارته بينما كل ما يريده هو أن يصيح أنه ما زال يعاني من تأثير الخمر الذي تناوله الليلة الماضية.

يشيح والده بيده في الهواء بإتجاه الساعة المعلقة على الحائط في الغرفة.

– إنها الثانية بعد الظهر، كان يفترض أن تكون في مكان عملك منذ التاسعة. هل تريد أن تحرجني مع د. إبراهيم، يا ولد. هل تعرف كم أنت محظوظ لحصولك على هذه الوظيفة؟ أم تعتقد أنك تحصلت عليها “بمجهودك”؟ في عمرك كنتُ قد أصبحتُ شيئاً.

يحدق الأب في إبنه وهو يرفع يديه.

-بنيت إمبراطورية بهذه اليدين. وأنت؟ ماذا فعلت أنت؟

ينهار والده على كرسيه وهو يهمهم في إشمئزاز ويشيح بنظره.

-أنت عبارة عن خيبة أمل.

بالكاد يستطيع نوح كبت صوت إستهزاءه وهو ينظر إلى والده.

بالكاد يعرف هذا الرجل. 

متقاعد حديثاً، يتواجد في المنزل الآن بصورة أكبر، لكن فقط تجده يقرأ صحفه ويمضي الأمسيات مع زملائه المتقاعدين. كامل فترة طفولته، يستطيع نوح تقريباً عد المرات التي تعامل فيها معه مباشرةً. مرات قليلة لإعطاء تحذيرات صارمة عندما يُسئ التصرف، مرة عندما أخبره بما يجب أن يدرسه في الجامعة بالضبط، مرة أخرى عندما أخبره بالوظيفة التي يجب أن يشغلها، والمرة الأخيرة عندما أخبره بالفتاة التي يجب أن يتزوجها.

ينهض ببطء مزيحاً يد أمه بلطف وهو ينظر إلى وجه والده المشيح عنه.

أراد أن يرجوه فقط أن ينظر إليه، أن يصيح به أو أن يهزه بعنف و يصفعه حتى.

لكنه بالكاد يعرف هذا الرجل.

-أنا ذاهب إلى المكتب.

ينظر للأسفل لوجه والدته الذي يلحظ عليه خطوط وتجاعيد جديدة سببها القلق. فيعطيها إبتسامة مهزوزة ويطبع قبلة سريعة على خدها وهو يعلم أنها بسهولة تستطيع أن تشم رائحة الكحول في أنفاسه.

تتناهى شجارات والديه إلى مسامعه وهو يشق طريقه خارجاً.

-هل يجب أن تقسو عليه دائماً بهذه الصورة؟

– دلالك الزائد أفسد الولد يا نادية! ما فائدة الذهاب إلى العمل الآن؟ إنه أضحوكة في المكتب.

يسمع صوت تحطم أواني. والده ينفث.

– سأدعهم يلحقونك بالخدمة الوطنية، يرسلونك إلى جنوب كردفان لتتعلم شيئاً أو إثنين، لقد اهدرت أموالاً طائلة في تعليم إبن مزعج، غير مسئول، أناني، لا يستحق مثلك. هل تسمعني يا نوح؟ نموذج سئ للرجال، هل تسمعني؟ مضيعة. 

(ii)

ينحنى خارجاً من نافذته المعتمة، يطالع بشغف جسد الفتاة طلوعاً ونزولاً. كرد فعل تسرع هي في خطواتها، لا تلتفت حتى خلفها لتنظر إليه.

حتى وعبارات التحرش تصدر من فمه بخبرة وحنكة، إذا سُئل لماذا يفعل ذلك والفتاة كما هو واضح غير مهتمة، سيقول أن هذه مجرد لُعبة وهؤلاء الفتيات أكثر من مستعدات للعبِها.

ما عدا هذه الفتاة تتجاهله تماماً، مما يثير حيرته وغيظه.

في الحقيقة، هو لا يعرف لماذا يفعل ذلك.

ربما لأنهن يستحقن ذلك.

ربما لأنه يشعر بالملل والقلق.

ربما لأنه ليس هناك أحد يبرر أفعاله له.

لكن الحقيقة أنه لا يشعر بأي نوع من الندم في قرارة نفسه. لم يشعر بالحاجة للتوقف والتفكير في تصرفاته اللا إرادية. لم يجد صعوبة في النوم بسبب عقدة الذنب لأنه كان مشغولاً بالشعور بأنه عالق ومرتبك.

أبطأ سيارته عندما لاحظ أنها تُحكم قبضتها على أكياساً بلاستيكية، الأول ممتلئ بخضار الأسبوع والآخر بمشروبات كابو بنكهات مختلفة، بلا شك لأخوانها الصغار. وجه الفتاة كان يخلو من اللون، شفتاها ترتجفان كأن وحشاً أمامها. تجمد جسده، متجاهلا الفتاة تماماً لينظر إلى شئ خلفها. تلمع عيناه بجموح، يضغط فجأة على دواسة الوقود ويتجاوزها مسرعاً.

لا ينظر أبداً في مرآة الرؤية الخلفية، واضعاً أكبر قدر ممكن من المسافة بينه، وبين الفتاة، والمسجد.

(iii)

يجلس نوح على تراب رطب، يسند مرفقيه على ركبتيه، يحمل في يد قداحة وفي الأخرى سيجارة. تتقاطع عيناه على المشهد أمامه، أشعة الشمس تنعكس على سطح الماء، تبهره. جعل هذا جزءاً من روتينه، أن يأتي كل يوم إلى هذا المكان، قبل المغرب مباشرةً ليُدخن.

وجد مكانه المفضل قبل عدة أشهر، بعد أن حطم سيارته عندما ضرب بها عمود كان يقف على بُعد أمتار قليلة. بمعجزة وليس لأول مرة، خرج من الحادث دون أن يصاب بخدش، وجد طريقه لهذا المكان في شاطئ النيل وجلس يراقب شروق الشمس حتى أتى أخيراً ضابط المرور متثائباً.

العمود ما زال يحمل آثار الحادثة.

أعطاه والده نفس المحاضرة عن خيبة الأمل ونفس التهديدات، ثم خرج نوح من المنزل ليجد سيارة جديدة أخرى في إنتظاره.

الرجل العجوز لا يستطيع أن يحرم إبنه الوحيد، وريثه الوحيد، من أي شئ.

لكن نوح يستطيع أن يرى الخوف في عيون والده، من أن يضيع إرثه على شخص مثله.

منذ أن كان طفلاً، كان مُطالباً بالإقتداء بعظمة وصلابة شخصية والده. حاول أن يتأقلم وأن يلبس جلداً ليس جلده. لكن وحتى الآن، بعد أن اصبح رجلاً والدنيا بخبرتها تحت ذراعه، يقف متقازماً وقليل الحيلة بجانب ذلك الظل البعيد المنال.

أراح نوح مقدمة رأسه على ركبته، يشعر بطعنة ألم قوية تنتشر عبر عنقه، وصدره يؤلمه. 

إذا كان بإمكانه، كان سيسد أذنيه حتى لا يسمع الإلحاح المستمر. من والدته وهي ترجوه أن يستقر ويمنحها أحفاداً، من خطيبته ليحدد موعداً للزفاف، من صديقته ترجوه أن يترك خطيبته، بينما كل ما يبحث عنه هو أن يجد طريقة ليتلاشى.

يشعل أخيراً سيجارته، يأخذ نفساً عميقاً لينفث سحابة كثيفة من الدخان، يضع يده على مؤخرة عنقه الذي ما يزال ينبض بالألم.

لا شئ من كل ذلك مهم، ما عداها هي.

كل ليلة، دون إخفاق، عندما يعود إلى المنزل، في أي ساعة كانت، يجدها في إنتظاره. يجدها نائمة على الكرسي، عادة تعلمتها بسببه. وتقريباً كل ليلة، يجلس تحت قدميها ليراقبها.

يعلم أنه لا هو ولا أبوه يستحقونها.

في الليلة الماضية، بعد أن قام بهدوء ليقبل جبينها، قطع عهداً على نفسه. سيتزوج الفتاة ويمنحها الأحفاد الذين طالما حلمت بهم. إنه أقل شئ يستطيع أن يمنحها اياه، مع أنها تستحق أكثر بكثير من ذلك.

لكن ما لا يعلمه أنه بعد أن غادر إستيقظت مفزوعة، وهي تبكي بصورة هيستيرية وتنادي عليه لكي يعود، لم يستطيع والده تهدئتها.

ينهض نوح ببطء، ينفض ما علق بملابسه من أوساخ. يسحب نفساً طويلاً من سيجارته، ويزفر سحابة أكبر من الدخان. مميلاً برأسه، يرفع يده ليدع الدخان يمر عبر أصابعه. ينفث دخاناً أكثر، ويراقبه وهو يتحلق ويتموج بكسل. يحرك يده، يمنةً ويسرى، يلعب بخيط الدخان، يشده بلطف، يراقب التفافه وتشكله حسب أمره. رمى سيجارته ليحرر يده الأخرى، ليتمكن من تشكيل الدخان والهواء كما يريد. غمرت البهجة شرايينه عندما صارت الأشكال أكثر تعقيداً، تتشكل وتختفي كأزهار وأشكال يراها فقط في أحلامه. مدفوعاً بالحماس، يسرع حركته في تشكيل الدخان كفن طي الورق (الأوريقامي) الياباني، يتراقص الآن على إيقاعاته. يلاحظ فجأة الغبار الناعم الذي يحيط به، عالقاُ بسكون، يأبى أن يتشكل. بقوة يحاول التأثير على هذا الغبار العجيب لكنه يقاوم أوامره أن يلتوي، متجمداً ويقترب منه كأنه مفتونٌ به. 

مرتبك، يغير من طريقته، يمد يده بحياء ليسحبها بسرعة، مكتشفاً أن هذا الغبار في الحقيقة أنثى.

يقطع تركيزه أصوات أطفال تأتي من بعيد يضحكون ويتراشقون بالماء. ينزل يديه ويهز رأسه وهو يغمض عينيه.

بتردد يفتحهما، يبتسم بأسى، لا شئ هناك.

يراقب الأطفال لعدة دقائق، ثم يُعطي ظهره للنيل، للغروب، وبداية الأذان.

(iii)

-سيبدأ أيها الأغبياء.

كشر الصبي بحنق وهو ينتظر الآخرين ليلحقوا به.

-سنفوته! هيا بنا!

وقف قريباً من حافة الماء لكنه على الرغم من تبجحه، لم يجرؤ على القفز من دون الآخرين.

قبل أن يصيح، إندفعت أربعة أجساد من خلفه نحو الماء، يصرخون بمتعة ظاهرة. يقفز خلفهم، يسبح متجهاً إلى منتصف النهر، وجد الأولاد يسبحون في الماء، هادئين، مترقبين.

-هل تعتقد أننا فوتناه؟

-هل تعتقد أننا فوتناه؟ سطح الماء هادئ، تنعكس عليه أشعة الشمس، تجبرهم على إغماض أعينهم وهم يواصلون التقدم.

-أخبرتكم! إنه مكانٌ معين وقد فوتناه …

ما أن بدأ بالتحدث حتى تحرك سطح الماء، ليرتفع ببطء فوق رؤسهم. نظر الأولاد بحماس إلى بعضهم البعض والأمواج تتحرك وترفعهم معها، تدور بمرح، قوة الدفع تحمل أجسادهم وتقذفهم في الهواء. يرقص الماء معهم، يتمايل ويتموج على رنين ضحكاتهم. وهم يصرخون ويتصايحون والمياه تتشكل في أشكال غير مألوفة، تغمرهم ثم تتركهم، وتدغدغهم وهي تتحول إلى فقاعات ورغوة.

وسط كل هذا الصخب، لم يكن هناك نسمة هواء واحدة، المياه المحيطة ظلت هادئة وساكنة.

تأوهوا جميعاً بخيبة أمل، وهم يضربون بحزن السطح الذي صار هادئاً

تسبح المجموعة نحو الشاطئ، يرتدون ثيابهم على عجل وهم يلاحظون أنهم قد تأخروا عندما يرتفع النداء لصلاة المغرب.

يسيرون وهم يتلاكزون ويتهامزون، تاركين النيل خلفهم ثم يسرعون في خطواتهم وهم يمرون بالعمود المنحني الذي صدمه سائقٌ مخمور. بالكاد يسيطرون على إرتجافهم وهم يمرون بهذا الموقع.

السائق كان شاباً، وقد مات مباشرةً بعد أن إنكسر عنقه قبل شهورٍ قليلة.