هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

تمتلئ وسائل التواصل الاجتماعي وأحاديث الأصدقاء من عشاق الأفلام بالحديث عن “إيمان“، الفيلم السوداني المستوحى من قصص واقعية لأربع شباب سودانيين بصدد الإنتماء إلى جماعات متطرفة. بعد رؤيتي للإعلان التشويقي للفيلم تحمست جداً للفكرة ولفت إنتباهي براعة إختيار المواقع وجودة التصوير السينمائي؛ وفي مساء 22 أغسطس وعلى سطح معهد جوتة، كنت ضمن الحضور للعرض الجماهيري لفيلم “إيمان”.

يبدأ الفيلم بمشهد البحث عن إيمان، تمتلئ الشاشة بوجه أم تٌفاجأ بعدم وجود ابنتها في المنزل، حتى تدخل في حالة هستيرية من الصراخ والعويل، تنتهى بمكالمة من “هيئة مكافحة الإرهاب” تُنبئها أن “إيمان” قد انضمت لجماعة إرهابية. الصدمة هنا ليست في رد فعل الممثلة، حيث إستطاعت تأدية المشهد ببراعة، الصدمة -بالنسبة لي على الأقل- كانت في طريقة إكتشاف حقيقة إنضمام “إيمان” للجماعة الإرهابية. سمعت الكثير من القصص من الأصدقاء والمعارف عن حقيقة إنضمام أبناءهم لمثل هذة الجماعات، كل قصة من تلك القصص لها رحلتها الخاصة ولكن يجتمعون جميعا في غموض وصعوبة الحصول على معلومة حقيقية في بداية رحلة البحث. جمعيهم يوصفون بدقة حالة “الجرجرة” التي يمرون بها إلى حين التأكد من حقيقة الأمر؛ من المسؤلين الحكوميين إلى أصدقاء ومعارف الإبن المختفى، إلى الإبن نفسه في حال تمكنهم من الحديث معه في بعض الاحيان النادرة. قد يبرر صناع الفيلم هذا الجزء بأنه تمهيدي والمعالجة الدرامية تبدأ بعد إنضمام هؤلاء الشباب لتلك الجماعات، وأنه بالرغم من أن أحداث الفيلم مستوحاة من قصص حقيقية إلا أنه فيلم خيالي. ولكن تكمن مشكلتي مع هذا المشهد بالذات في أنه البداية لكثير من التنازلات لمحاكاة الأفلام العالمية على حساب الواقعية وعكس الخصوصية السودانية. مثلاً مشهد “بدروم العمارة” عندما يذهب الإبن لملاقاة المسؤول في الجماعة الإرهابية، كان أقرب لمشاهد المافيا في المسلسلات والأفلام العالمية، ولو لم يزج بكلمة “كافر” في الحوار لإعتقدت أننا نشهد إجتماع لمجموعة “مافيا” عالمية فرع السوق العربي! بالتأكيد أقدر حرص صناع الفيلم على البعد من التنميط و”الكليشيهات” في الحديث عن الإرهاب، ولكن في نفس الوقت اظن أن هذه المشاهد ستصعب فهم الفيلم عندما تُستخدم هذه الأنماط في غير موضعها. 

undefinedImage Credit; UNDP 

يستمر الفيلم في عرض قصص الشباب، فنتعرف على “هيما” الشاب القادم من بلاد الغرب، ليصطدم بالثقافات المختلفة في حرم جامعي داخل السودان، من إنفتاح وتحرر فرقة الموسيقى الجامعية، لتزمت مجموعة شباب فريق كرة القدم الجامعي. وبالرغم من بُعد هذا الجزء أيضاً في رأيي الخاص من واقع الجامعات السودانية، إلا أنه من أكثر الأجزاء متعة في الفيلم، ربما يرجع السبب لأن ما ينقص هذا الجزء من قرب من الثقافة السودانية تعوضه الموسيقى الرائعة والمشبعة بالهوية السودانية.

الحقيقة أن المميز والمحبط –على حد سواء- في فيلم “إيمان” هو عالمية القصة، فقد يستطيع أي مشاهد بغض النظر عن جنسيته وخلفيته الثقافية رؤية نفسه أو أصدقائه في القصة وقد يكون ذلك رائعاً لصناعة أفلام عالمية ولكنه مجحف في حق المحلية. طوال الفيلم بحثت و للأسف لم أجد التفاصيل الصغيرة التي تشعرك ب “سودانية” القصة. أعلم أننا للآن لم نصنع هوية بصرية أو سمعية في وسائل الإعلام لكي نطالب بوجودها على الشاشة الفضية، ولكن شخصيات فيلم “إيمان” تفتقد الواقعية التي تُميز الأفلام المؤثرة. وددت لو أري في الفيلم مشهداً واحداً يعكس تفاصيل لا يمر بها سوى السودانيين، كتناقض قصة إنضمام بعض الشابات السودانيات لجماعات دينية متشددة برفقة “أصدقائهم” الشباب، أو مدافعة بعض الأسر بإستماتة عن الجماعات الإرهابية في “لمات” العائلة ومن ثم إستنكار إنضمام الشباب لنفس هذه الجماعات. مثل هذه الإقتباسات كان بإمكانها إثراء القصة وإضافة بُعد آخر للشخصيات. ربما أراد صناع الفيلم فعل ذلك في مشهد “الصرخة” عند ذهاب أم “إيمان” لحفل الزفاف في محاولة منها للمحافظة على صورتهم الاجتماعية بعد إختفاء “إيمان”، هذا التناقض يحاكي الواقع بصورة كبيرة ولكنه لم يترك الأثر المطلوب بسبب عدم وجود البناء الدرامي الكافي. 

من الإكتشافات الرائعة في هذا الفيلم هو وجود طاقات تمثلية مميزة في السودان، لم أشعر للحظة خلال الفيلم بتصنع أو “تمثيل” الممثلين، خصوصاً الممثلة في دور “جنينة” نتاليا يعقوب، فقد أدت مشاهدها بكمية من الصدق والعفوية المميزة.

بالرغم من كل ذلك أجد أن الفيلم ككل بمثابة تحفة بصرية، ما ينقص من خصوصية القصص والحبكة الدرامية تعوضه خصوصية المواقع والممثلين المميزين. بعد نهاية الفيلم وعلى سطح معهد جوتة ضج المكان بتصفيق الحاضرين وتعليقات الحضور عن شعورهم بالفخر والسعادة بالإنتعاش السينمائي الذي يشهده السودان حالياً.

ربما نُحمل نحن عشاق الأفلام، صناع الافلام السودانية المعاصرة أكثر مما يطيقون بسبب قلة الإنتاج، فيزيد التركيز على فيلم واحد ليجمع كل ما يمثله لنا السودان على الشاشة؛ وبالرغم من عدم واقعية مثل هذا التوقع يحق لنا أن نأمل أن يحمل الإنتاج القادم جزء قليل من روح الشارع السوداني لنستطيع ترك بصمة مختلفة في عالم السينما.