هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

الأطروحات الكلاسيكية

إن الحديث عن الثقافة يأخذنا مباشرة إلى مفهوم الهوية. وقد أخذ جدل الهوية عقوداً في الأوساط الثقافية والأكاديمية في السودان قبل إنفصال الجنوب, وكان لهذا الحوار بُعد تاريخي متجذر في عقول العديد من السودانيين حول هوية السودان “الثقافية”، أهي عربية أم أفريقية.

وعلى الرغم من صعوبة البرهنة على صحة أي من المزعمين إلا أن العديد من الكتّاب والباحثين السودانيين الجنوبيين والشماليين تباروا في تحديد هوية وإنتماء ثقافة السودان. فهناك الكثير من الكتّاب الذين ذهبوا إلى أن السودان دولة عربية إسلامية، كما أن ثقافة السودان عربية بطبيعة الحال. بينما رفض بعض الكتّاب الجنوبيين هذا التوجه ونادوا بأفرقة السودان وجذوره الضاربة في القارة السمراء.

إن قلنا أن الثقافة إنتاج الإنسان وهي مجموعة من العادات والتقاليد (المفاهيم والنظم) التي يتم توارثها بين الأجيال, فإن الإفريقية لن تكون أكثر من الإنتماء إلى الأرض أكثر منه إلى الثقافة بالمعني المجرد للكلمة. تماماً كما يكون الحال مع العربية (أو العروبة) التي هي عبارة عن إنتماء وميول وجداني من قِبل البعض.

وفي سبيل الدفاع عن عروبة الثقافة السودانية يكتب عبده بدوي الذي يعتقد أن ثقافة السودان عربية وذلك بعد عودته للتاريخ لدعم زعمه قائلا “المهم أن الله فتح على المسلمين بثلاث ممالك إسلامية في السودان هي: مملكة الفونج, مملكة الفور ومملكة تقلي, وقد كان لهم دور كبير في تعريب ونشر الإسلام على مناطق شاسعة في القارة الأفريقية, بل وفي وجود خصائص للعربية هناك”1 .وإعتمد في بحثه هذا على عناصر الشعر العربي والإسلامي في السودان الشمالى فقط.

وذهب بكري خليل في نفس الإتجاه حيث يدعي أو يعيد الفضل إلى الحضارة العربية بالنهوض بالثقافة الأفريقية خاصة في مرحلة ما قبل الحركات التحررية الأفريقية بقوله أن الوعي الأفريقي كان بعض الشئ بعيد عن أذهان الكثيرين لأن “الوعي بالهوية في ظل هذه المرحلة كان وعياً غامضاً وَسَعت دائرته الحضارة العربية الإسلامية ونظم قِيَمها وأُسُسِها الحياتية للمطلق أمام ضمور حركة الإبداع والتجدد, وإعتبار الكل الحضاري حزام الأمان وطوق النجاة في عالم تتقاذفه أمواج المدينة الحديثة”2. هذا المفهوم هو الذي ظل سائداً لعقود في أذهأن الكثير من الكتّاب الشماليين, ويقابلهم الكتّاب الجنوبيين أيضا بالمثل ويعتقد كثيرون أن سياسة التعريب والأسلمة, والتي طبقها الجنرال عبود في جنوب السودان في العام 1958م, كانت بحثاً عن هوية موحدة للبلاد ولكنها في حقيقتها كانت شكلاً من أشكال الإستلاب الحضاري للبلاد.

إن الإنتساب إلى الإسلام وإستخدام اللغة العربية, لا يغير هوية الشخص ولا يعني بالضرورة الإنتماء إلى الهوية العربية. د. ضيو وول 3 يعتقد أن “هوية الجنوب الثقافية أفريقية بلا شك وأن الإنتماء إلى السودان والتحدث بالعربية لا يعني عروبة الجنوبيين.” ضارباً بعرض الحائط محاولات عبود لتعريب الجنوب من خلال فرض اللغة العربية وإعلان يوم الجمعة يوماً للعطلة بدلاً عن الأحد وكذلك تشجيع إرتداء الجلابية وغيرها من مظاهر الثقافة التي كانت دخيلة على الجنوب آنذاك.

undefined

Painting by Osman Shibir

أما فرانسيس دينق فقد ذهب إلى إنكار توجه السودان العربي, واصفاً الهوية الشمالية بالإستيعاب. وعن ذلك يقول “كانت العملية في مراحلها الأولي في الأساس نتاجاً للصلات المستمرة والتعامل مع التجار العرب, وشارك فيها السودان الشمالي؛ وبرغم تواضعها ساعدت في إنتشار الحضارات والثقافة والعلاقات الإجتماعية. قدِم العرب من عالم بعيد, عالم له إبداعه في إحداث التطورات, وله من البضائع المميزة ما عكس تقدمه بالنسبة للسودانيين المحليين”4). إن هذا الكلام على الرغم من صحته إلا أن له ما يبرره، خاصة مع الشوفينية السودانية التي كانت مبالغ فيها, ولذلك يُعَد تاريخ الإستعراب والأسلمة تفاعلاً معقداً بين القوي السودانية الداخلية المتعددة وبين الصلات الخارجية مع العروبة والإسلام خاصة مع مصر 5.ولم يسلم الجنوب من هذا التداخل بين الثقافة العربية الإسلامية والأفريقية. 

ما بعد الإنفصاللم ينتهي حوار الهوية في السودان وإنتماء البلاد كأفريقية أم عربية إلى أن أنفصل الجنوب. فقد بدأت هوية المقاومة الجنوبية في الفترة التي سبقت الحكم الثنائي الإنجليزي-المصري, في وقت كان في الجنوب مرتعاً لغزوات الرقيق, وتواصلت خلال فترة الحكم الإستعماري 6، على الرغم من محاولات غردون الدؤوبة لإيقاف هذه التجارة.

وقد كان أول إتصال جدّي بين الثقافة الجنوبية والشمالية في فترة المهدية, فبعد أن طرد المهدي الأتراك جرى إتصال بينه والجنوبيين الذين كانوا ينادونه “مادي” وتم تشبيهه ب”دينقديت” جالب الخير في الأساطير الجنوبية. على الرغم أن المهدية لم توقف تجارة الرقيق في الجنوب إلا أن الجنوبيين رأوا في المهدي المُخَلِص, وهذا يظهر في أغاني الدينكا الفلكلورية.

ظل الإتصال بين الشمال والجنوب إلى يومنا هذا مستمراً, على الرغم من توقف الحديث أو الكتابة عن سؤال الثقافة الجنوبية، والبحث و أيضا الحفر في ما إذا كانت عربية أم أفريقية خالصة, أم خليط بين الإثنين معاً. ربما يعود ذلك إلى إتفاق الكتّاب والمهتمين إلى أن الجنوب أو بالأحري الثقافة الجنوبية أضحت إفريقية خالصة بعد الإنفصال من الشمال.

وهو إعتقاد خاطئ برأيي؛ إن نظرنا إلى الثقافة الجنوبية اليوم فإننا بلا شك نجد فيها مقومات الثقافة الأفريقية الضاربة في القِدَم- مثل الطبول وطريقة الرقص وحتى العادات والتقاليد – مع أن هذه العادات مهددة بالتلاشي. بالمقابل فإن عناصر الثقافة العربية موجودة أيضاً في ثقافة جنوب السودان اليوم، ويبدأ ذلك في الأدب؛ الشعر, القصة القصيرة والرواية. حيث يبدع الأدباء لا سيما الشباب منهم باللغة العربية, على الرغم أن الأدب الجنوبي ليس ثري مقارنة بالسودان الشمالي. ففي السودان يوجد أدباء عظماء ولهم شأن عالمي أمثال الطيب صالح, محمد الفيتوري, إدريس محمد جماع, محجوب شريف وعبدالعزيز بركة ساكن وغيرهم، ساهموا في الأدب العالمي بكتاباتهم وأشعارهم. بينما يوجد في الجنوب كتّاب وأدباء لا يتعدون أصابع اليد وعلى رأسهم تبان لو ليونق الذي إشتهر كثيراً في شرق أفريقيا والعالم الغربي بأشعاره وكتاباته النقدية ولم يكن له ذكر في السودان إلا في الأوساط الثقافية وعلى نطاق ضيق فقط. وكذلك القاصة أغنيس لوكودو التي توقفت عن الكتابة, و أيضاً آرثر غبريال وإستيلا قايتانو. 

عالم متداخل

يصعب أن أزعم أن الثقافة الجنوبية عربية أو أفريقية, ففي عالم متداخل اليوم أضحي من الصعب البرهنة على الخصوصية الثقافية لأي مجموعة معينة ولا سيما لمجتمع مثل المجتمع الجنوبي الذي ظل متداخلاً مع الشمال لفترة تصل لأكثر من قرن. فاليوم هنالك طرق للتعبير الثقافي قريبة من العربية مثل طريقة اللبس وكذلك الغناء ناهيك عن عشرات الكلمات العربية المتواجدة في العديد من اللغات الجنوبية. وعلى الرغم أن لغات جنوب السودان مكتوبة بالأحرف اللاتينية إلا أن كلمات من اللغة العربية تدخل فيها أثناء الحديث, وهو أمر لا يمكن إنكاره. تماماً كما هو الحال مع الثقافة الغربية المتمثلة في الأسماء التي أتى بها المبشرين أثناء الإستعمار, مثل ديفيد, دانيال, جيمس وغيرها من الأسماء المسيحية الغربية. بالإضافة إلى العنصر الإفريقي الأصلي.

إن عالم اليوم يسير نحو التثاقف, أي تداخل الثقافات وأخذها من بعضها البعض. هذا ما يدعوه يورجن هابرماس بطريقة أخري “تضمين الآخر(the inclusion of others) أي أن الآخر المختلف عنا يمكننا أن ندخل معه في علاقة يأتي في نهاية المطاف نتيجة إستفادة منها بشكل جيد. لذا فإنه من الصعب الجزم او القطع بأفريقية أو عربية ثقافة الجنوب. إن ثقافة جنوب السودان ليست ثقافة عربية خالصة, وليست ثقافة أفريقية خالصة- وإنما هي ثقافة إنسانية, لأنها ببساطة أخذت من العديد من الثقافات والحضارات الإنسانية في شرقها وغربها.

المراجع:

1- د. عبده بدوي, الشعر في السودان, سلسلة عالم المعرفة 41, ص 16
2- د. بكري خليل, الوعي الذاتي وهوية السودان الثقافية, مكتبة مدبولي 2008م, ص 17
3- د. ضيو وول, سياسة التمييز الإثني في السودان, مبررات إنفصال جنوب السودان, مكتبة الشريف الأكاديمية, ت. مهدي محمد السيد وجمال طه غلاب, ص 111
4- د. فرانسيس دينق, صراع الرؤي, نزاع الهويات في السودان, ت. د. عوض حسن, ص 42.
5- نفس المرجع ص 63
6- المرجع السابق ص 71 


دينق الينق

دينق مدون و كاتب و روائي و صحفي، هو أيضاً مؤسس ومدير جمعية الأمل الأدبية. يأمل دينق في أن تساهم كتاباته في تغيير الواقع المعاش الآن إلى الأفضل. يرى أن الكتابة، لا سيما الروائية أعمق مدلول وأنفع وظيفة إجتماعية وسياسية وثقافية, خاصة أن الكتابة غدت من وسائل التربية والتثقيف والترفيه وصقل العواطف. يحب دينق أيضاً الفن التشكيلي. يمكنكم التواصل مع خلال صفحته على الفيسبوك https://www.facebook.com/daviddeng.aling