هذا المقال متوفر أيضاُ باللغة English

في أندريا نهتم جداً بالموسيقى لأن لها طرق كثيرة في عكس الأفكار و المفاهيم و التاريخ الأممي. لذا قابلنا الدكتور علي إبراهيم الضو الذي يعمل بمعهد الدراسات الأفريقية التابع لجامعة الخرطوم. ولد د. علي في عام 1948 و بدأ دراسته بكلية العمارة بجامعة الخرطوم ثم تركها ليدرس المحاسبة ثم نال بكالوريوس الموسيقى بالتزامن مع دراسته للمحاسبة. نال بعدها درجة الماجستير في الفلكلور من جامعة الخرطوم ثم عمل بها حتى يومنا هذا. نشر د. علي الضو ثمانية كتب و42 مقالاً وحضر 40 مؤتمراً عالمياً ومحلياً كلها في مجال الموسيقى.

أندريا: ما الذي يميز الموسيقى الأفريقية عن غيرها من حيث الأنماط والسلم وخلافه؟

د. علي الضو: تمتاز الموسيقى الأفريقية عما سواها على مستويين :من حيث البناء و التركيب ومن حيث الثقافة. فلنتمكن من فهمها يتعين علينا وضعها في سياقها فهي تدخل في مختلف نواحي الحياة الأفريقية كالصيد، والتعبد، والإستسقاء، وفي الترفيه كذلك. عادة ما تخالط الموسيقى أغراض وظيفية أخرى، فعلى سبيل المثال فإن بعض القبائل الأفريقية تقوم بالرقص على أنغام الموسيقى عند موت أحد أفراد القبيلة، ليس ذلك تعبيراً للحزن بل عن تحديهم للموت فهم يتعهدون في هذه الطقوس أن لا يحل العام القادم إلا وقد إستبدلوا فقيدهم بمائة طفل جديد عوضاً عمن أخذه الموت من القبيلة.

إن الطابع الوظيفي العملي للموسيقى الأفريقية يجعلها لا تحتاج بالضرورة إلى آلات موسيقية محددة، فكل ما يصدر صوتاً فهو موسيقي، كالطبول والأجراس أو حتى الأصوات الفموية التي يصدرونها. كذلك من مميزاتها أنها لا تشترط أن يكون الصوت جميلاً حتى يتمكن الشخص من الغناء كما في الثقافات الأخرى – حيث يكون الغرض الأساسي من الغناء هو الطرب.

والسمة الأخرى التي تمتاز بها هي أنها بصرية، أي أنها تدمج الأصوات والإيقاعات مع حركات الجسد التي تتدرج من الإيماءات والضرب على الأرض بالأجراس، إلى الرقصات المنظمة حتى أنه يطلق عليها (physical music)  لإرتباطها بالنشاط الجسدي المصاحب للإيقاع.

كما أن الموسيقى لدى الأفارقة لها مكانة عالية  تقارب منزلة الأديان قداسة، وذلك ما توصل إليه العلم لاحقاً. فعلى سبيل المثال فإن التزاوج بين الحيوانات يتم عن طريق الطقوس الغزلية التي تتضمن إصدار أصوات منغمة تعمل على تنشيط منطقة معينة في قشرة المخ (the cortex) ودون ذلك لا يمكن أبداً أن يتم التزاوج.

أما على مستوى الإنسان فهي قادرة على أن توصله إلى حالة من النشوة يفقد فيها قدرته على التحكم في أفعاله، فقد نجد شيخاً كبيراً في السن يشرع في الرقص في حلقة الذكر بطريقة لا تتماشى مع وقاره، فهو حينها منغمس فيما يقوم به غير واع تماماً لتصرفاته.

كذلك في الحروب، فالموسيقى تساعد على جعل الجنود يتصرفون خلافاً لغريزة البقاء، ليذهبوا إلى الموت بأقدامهم. 

أندريا: هل تعتبر كون الموسيقى الأفريقية سماعية إرتجالية قد خصم منها أم أضاف إليها؟

د. علي الضو: الموسيقى تنشأ كجزء من الثقافة دون تدوين، ثم يأتي العلم ليدرسها ويستخرج أنماطها الأساسية. لذلك من غير الممكن أن يكون إنتقالها بالسماع قد أنقص منها، فهنالك الكثير من العلوم التي إنتقلت إلينا بالسماع. أقرب مثال لذلك علوم الدين والحديث في الدين الإسلامي فقد إنتقلت إلينا في باديء الأمر من أفواه الرجال، ولم ينقص ذلك من قدرها شيئاً. هنالك دوماً آليات للتحقق من صحة المنقولات؛ فالسماع كما التدوين والكتابة لا يعدو كونه وسيلة للتواصل و نقل المعارف إذ لا يسعنا أن نراها عيباً أو ميزة.

وقد إعترض علماء علم موسيقى الشعوب عن طرق تدوين الموسيقى الغير الأوربية في فترة الثورة الصناعية حين تمت صناعة الآلات الموسيقية وتم على إثر ذلك تدوين الموسيقى وفق قواعد تلك الآلات. الموسيقى الأفريقية دونت بطريقة سطحية قاصرة عن الإلمام بكافة جوانبها ويرجع ذلك إلى طريقة التدوين، وكذلك إلى أنها لا تكتمل إلا بالرقص و تعبيرات الجسد الأخرى. 

أندريا: إذن كيف برأيك دراستها أكاديمياً إن كانت طرق التدوين غير قادرة على عكسها بصورة سليمة؟

د. علي الضو: يمكننا تدوينها ودراستها بإستخدام ذات الحروف الموسيقية الغربية ولكن مع التصرف بإضافة رموز توضيحية لتنقل ما لم يستطع الحرف الموسيقي نقله (كأن نشير إلى أن الحركة زائدة أو ناقصة عن الحرف المدون). أما إذا تم التدوين دون إعتبار لمثل هذه الخلافات فإن ذلك سيؤدي دون شك إلى تشويه الموسيقى الأفريقية أو عكس صورة مغايرة للواقع ؛ولذلك إنفصل علم موسيقى الشعوب عن باقي فروع الموسيقى وأصبح يدرّس كإختصاص مستقل ليقوم بتوثيق موسيقى الشعوب كثقافة لا كإحتراف.

أندريا: ما هو الدور الذي تلعبه الموسيقى في تكوين هويات الشعوب ؟

د. علي الضو: سياق الموسيقى هو سياق ثقافي نستطيع من خلاله تمرير أجندات لا يستطيع أي سياق آخر تمريرها؛ ففي السودان لدينا تقليد “رقيص العروس” على أنغام أغاني معينة أمام جمع من النساء ليبرهنوا على عفة إبنتهم وذلك لم يكن يمكن أن يتم في سياق آخر غير سياق الموسيقى. كما أن الموسيقى جزء أصيل من أي تقليد أو طقس ديني تقوم به القبائل الأفريقية. 

undefined

Image Credit: Ali Saad Ali 

أندريا: دعنا الآن ندلف إلى الموسيقى السودانية على وجه الخصوص، هل هي أقرب إلى الموسيقى الأفريقية أم العربية؟

د. علي الضو: السودان فريد في مختلف النواحي. في السياسة والثقافة والمعتقدات وغيرها – وأنا هنا لا أدعي أن السودان هو الأفضل ولكنه لا يشبه غيره من البلدان وذلك لعوامل تاريخية وجغرافية إمتاز بها عمن سواه. هنالك مجموعة من السمات التي كونت الشخصية السودانية. فالسودانيون لديهم نوع خاص من الأدب والسلوك والكرم والطيبة وحب الغير والتكافل، وذلك يصدق كذلك عن موسيقانا فهي تشبهنا وحدنا بالرغم من أنها متأثرة بالموسيقى الأفريقية وكذلك العربية، ويميزنا عن الأفارقة أن الرقص لدينا لا يتم إلا في سياقات معينة كما في (العرضة) وحلقات الذكر فتأتي إيماءاتنا المصاحبة للموسيقى خجولة مكبلة بضوابطنا الثقافية والاجتماعية. 

أندريا: ما رأيك في محاولات تطوير الموسيقى السودانية بإدخال إيقاعات وآلات جديدة عليها؟

د. علي الضو: ليس في الإمكان تطوير الموسيقى و إنما تنميتها؛ كأن أنمي لحنا ليعبر عن قصة. ولكن محاولات إدخال آلات جديدة وإيقاعات مختلفة لا تعدو كونها تشويهاً للموسيقى التي تعبر عن ثقافتنا وهويتنا. ممارسة الموسيقى كنشاط ذهني إحترافي يوجب علينا الإلتزام بأسس معينة تقوم عليها الموسيقى وتفرض حداً أدنى يتم في إطاره تقبلها.

أندريا: ما الأثر الذي تركه الإستعمار والهجرات على الموسيقى السودانية؟

د. علي الضو: كان للإستعمار كبير الأثر في الغناء الإحترافي (على نمط المدينة) الذي نقله إلينا الأتراك. فقد إستقر الكثيرون منهم في جزيرة صاي وتصاهروا مع السكان المحليين وأثروا على الموسيقى السودانية بإدخالهم العود والموسيقى الشرقية إليها؛ غالبية الفنانين السودانيين في تلك الفترة (فترة ما بعد الإستعمار) أمثال الكاشف ووردي وخليل فرح  كانوا ذوي أصول تركية.

وهذا لا ينفي أن السودانيين قد عرفوا الموسيقى ومارسوها منذ أمد بعيد ولكن دون آلات معينة ودونما إهتمام بجودة الصوت في الغناء فقد كان يغلب الطابع الوظيفي على الترفيه.