أحد أهم سمات العصر الرقمي هو إضفاء الطابع الديمقراطي الذي يحدد من بإمكانه أن يصبح مثقفاً. بالإضافة إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على كيفية الوصول إلى الأفكار ونشرها، ويجادل البعض بأنها ديمقراطية المعرفة. لم يعد المثقف الذي يحمل الدرجات العلمية ويؤلف الكتب وله معارف سابقة هو الوحيد الذي يتحدث الحقيقة، كما لم يعد هو الذي يملك المعرفة النهائية وبالتالي فإنه ليس بالضرورة أن يكون له الرأي الأفضل في كل موضوع يتحدث فيه. لذا، برز المثقف المعاصر لسد هذا الفراغ. إن هؤلاء المثقفون الرقميون أو المثقفون الجدد او المثقفون الشباب أو كما تريدون تسميتهم، ولدوا في ديمقراطية المعرفة ولكون المجال الرقمي قدم لهم:
- منصة: مكان على الانترنت يمكنهم فيه التعبير عن أفكارهم. كان المثقفون سابقاً يحتاجون إلى درجة معينة من الكتابة في الصحف والمجلات، أما الآن فيحتاجون فقط إلى هاتف ذكي أو كمبيوتر للكتابة والمساهمة في المنصات على الانترنت.
- شبكة: هناك جمهور كبير من الطلاب والشباب والمهنيين الذين يمضون وقتاً كبيراً من حياتهم على الانترنت في القراءة والكتابة والاعجاب والمناقشة. وهذه الشبكة كبيرة ومتنوعة و لها قيمة كبيرة جداً في التبليغ عن ردة فعل الجمهور.
عند التحث عن العقلانية الرقمية والشباب المثقف المعاصر، سيكون من المهم أن نلاحظ أن من يسمون بالمثقفين المعاصرين أو الشباب لا يعنى بالضرورة أن هويتهم الفكرية مثقفين; فهم يرفضون هذه الكلمة. يعرفون أنفسهم بأنهم شخصيات في الوسائط الاجتماعية، مفكرين، وصانعي التغيير الاجتماعي، يعرفون بالمثيرين للمتاعب الرقميين، الناشطين الرقميين، أو صوت خلف لوحة المفاتيح; لديهم الكثير من الأسماء التي تصفهم.
وفى الواقع، يعتبر هذا الجيل الجديد أن لكلمة “المفكر” دلالات سلبية. أصبح المثقف اسلوباً للتمتع بأساليب حياتية مفترضة، كشرب القهوة السوداء بدون سكر، تربية شعر الرأس، قراءة الكتب في وسائل النقل العام، الإستماع إلى فيروز ومصطفى سيد احمد والإقتباس من أشعار الرومي وغيره من الشعراء المشهورين.
ماذا يعنى هذا؟ ما الذي يقبع وراء العناوين؟ عندما نتحدث عن المثقفين المعاصرين، فإننا نتحدث عن جيل حيث الاكاديمية ليست بالضرورة علامة على العقلانية حيث لا يوجد إقتران بين العقلانية والثقافة والمؤسسات الاكاديمية.
وهنا أود أن أشير إلى هؤلاء الشباب بوصف “المثقفين” رغماً عن أنهم يفضلون غير ذلك.
الخصائص
يتألف هذا الجيل الجديد من “المثقفين” من الرجال والنساء، أما الإمتيازات التي يتمتع بها الرجال في الحياة اليومية تقل هنا وذلك لأن الرجال والنساء يمكنهم أن ينحتوا لأنفسهم مساحات على الإنترنت ويتحدثون بنفس السلطة. لديهم قدرات كتابية ممتازة، ولهم القدرة على التعبير عن آرائهم بشكل جيد جداً في مواضيع واسعة، فوجدوا المعجبين والقراء على وسائل التواصل الاجتماعي. لديهم العديد من الأصدقاء والمتابعين في الفيسبوك وتويتر و يمكن أن يكون لهم مدونة، نجدهم نشطون في مجموعات الفيسبوك مثل مساحات حرة، مهيرة وغيرها.
يعلقون على القضايا الراهنة، وينقدون الأفلام والكتب وغيرها من المواد الفنية لتوصيل حقيقة أنهم على رأس كل إنتاج إبداعي. وقد يستخدمون أحياناً تواجدهم القوي في وسائل التواصل الاجتماعي لإيصال ميولهم الغير ثقافي أيضاً. يمثلون النسخة الحديثة لعبد الخالق محجوب، ولكنهم بدلاً عن التحدث في الشوارع والندوات الداخلية، يكتبون استراتيجياتهم السياسية على المدونات وكتابات الفيسبوك الطويلة التي غالباً ما تجد العديد من التفاعل والتعليقات. أي شيء يقولونه في الفيسبوك يلهِم نقاشاً ساخناً سواء على الانترنت أو خارجه –في العالم الواقعي. وتناقش كتاباتهم على الفيسبوك على نطاق واسع داخل أوزون وفي حضرة سيدة الشاي في أتيني.
كتب دانيال دريزنر، وهو عالم سياسي، في مجلة المجتمع في عام 2009، أن الإنترنت قد أنقذ المثقف العام من التراجع وخلق ما أسماه “المثقفين العامين 2.1”. في الواقع، يقول إن “نمو المدونات يحطم، أو يخفض على الأقل، الحواجز التي أقامتها الأكاديمية الاحترافية”. وبعبارة أخرى، يمكن للمثقف الرقمي التحدث من خارج الأوساط الأكاديمية أو الأماكن التي كانت تعتبر في السابق مساحات مغلقة ولا ويمكن إلا للمثقفين المؤهلين فقط الوصول إليها. وأخيراً، جادلت الورقة بأن المثقفين الرقميين يمكنهم التواصل مع الجمهور، وهذا يعطيهم ميزة الحصول على ردود الفعل وجعل أنفسهم على صلة وثيقة بجمهورهم، وبالتالي يصبحون أكثر فعالية لتطلعات وإحتياجات الجمهور كما يصبح النقاش كله تفاعلياً وليس حواراً من طرف واحد. التفاعل هو واحد من أهم خصائص المثقفين الرقميين، إنهم يشاركون في التواصل، دائما ما يصنعون حواراً ثنائياً وليس من طرف واحد وهذا يسمح لهم بالإحتفاظ بالمتابعين وإكتساب الجدد على مر الزمن.
دعونا نغوص في أعمق الخصائص التي تميز المثقفين الرقميين -على الانترنت- في مقابل نظائرهم من المفكرين التقليدين. إن المفكر التقليدي يهتم في معظم الأحيان بالقضية الوطنية بإعتبارها الموضوع الأكثر أهمية للمناقشة. ويتحدثون دائماً عن الحكم، وأزمة السودان المستمرة، والسياسة والسياسات البديلة. وهم يمثلون الجيل الأكبر سناً، الجيل الذي ترتبط فيه العقلانية إرتباطاً وثيقاً بالنخبوية ومن تخرجوا من جامعة الخرطوم. والمثقفون الأكبر سناً هم من الناحية المثالية من شمال السودان الأوسط وهم من الذكور. فثقافتهم تستند أساساً إلى الورق حيث يكتبون الكتب ويساهمون في المجلات والصحف ويتحدثون في المنتديات. وهي مرتبطة بالأوساط الأكاديمية أو العمل في بيئة مهنية.
المثقفون الرقميون في الغالب ليسوا مرتبطين بالأوساط الأكاديمية، بل هم من المهنيين، ولكن معظمهم في المهن الإبداعية. هم الكتاب والناشطون في المجتمع المدني والمدونين والموسيقيين وصناع الأفلام، والطهاة والمترجمين وحتى الأطباء. معظمهم ليس لديهم كتب منشورة وكتاباتهم على منصات رقمية تتراوح من وسائل التواصل الاجتماعية إلى الصحف الرقمية. لا يمتلك هؤلاء المعاصرين أصدقاء على الانترنت، بل لديهم “متابعين” وولائهم يكمن في عدد “إعجابهم” أو “إعادة التغريد” أو النشر. هؤلاء المثقفون المعاصرون هم دائماً في حالة تأكيد رأيهم والتواصل مع الجمهور على كتاباتهم. يطورون صداقات وحلفاء عبر الإنترنت مع أشخاص ومشجعين يتشابهون في التفكير و يكتبون أفكارهم وكتاباتهم.
Image Credit: thinkprogress.org via AP
الحروب على الانترنت
في أوائل مايو 2015، علق صحفي ومفكر رقمي على بيان أدلى به المتحدث باسم القوات المسلحة السودانية قال فيه إنهم أصيبوا بجسم متحرك وكان ذلك سببا لسماع إنفجار في الخرطوم في ذلك الأسبوع. وكان تعليقه من خلال نشر صورة للمرأة والتعليق على الصورة “هذا هو الجسم المتحرك الوحيد الذي نعرفه”. إن للمثقف الرقمي كما أسلفنا أعلاه، منصة وشبكة لمناقشة جميع المواضيع، ولكن هذا أيضا يجعله عرضة للخطر. إن هذا التعرض كبير، وذلك لأن المجال على الانترنت مفتوح لآلاف يمكنهم في غضون ساعة واحدة الوصول إلى تلك الكتابة والتعليق عليها.
إنهالت التعليقات وبدأت الحرب على الانترنت. الجدير بالذكر أن المثقفين الرقميين لا يطرحون بالضرورة أسئلة وجيهة حول مستقبل السودان، بل يناقشون أي شيء من الموسيقى إلى السياسة إلى النسوية إلى العلاقات الإقليمية. حصل نقاش حاد بحيث دفعت مدونة ومثقفة رقمية، تشير إلى نفسها باسم “الشرطة النسوية” على كافة وسائل التواصل الاجتماعي، أن تداخل في هذا النقاش وتنشر مدونة حول هذه الصورة والتعليقات التي أدلى بها ذلك المثقف الرقمي على الانترنت. لابد أن نذكر هنا بأن الإنترنت أو المجال الرقمي يحتوي على ذاكرة، و لن يتم حذف أي شيء تقوله على الانترنت وذلك بفضل أولا وقبل كل شيء: اللقطات.
تعرض المتحيزين جنسياً والذين يميلون لسوء المعاملة للكشف في هذه الحرب. و بات يجب أن يستعد المثقفين الرقميين، لأن من الممكن أن يتعرضوا للهجوم وسيتم فحص آرائهم و تخزين كل ما كتبوا في الذاكرة الرقمية.
وفي المدونة التي كتبتها “الشرطة النسوية” المفضلة لدينا، كشفت عن حقيقة أن المجال الفكري الرقمي قد ورث بعض الأمراض التي قمنا بتشخيصها لدى المثقفين التقليديين. هناك نوع من التمييز النوعي المتأصل والمتعمق، وفي كل مرة تثار فيها قضايا المرأة، يتم تهميشها واستجوابها. ولكن تماماً مثلما أتاح الإنترنت المعرفة الديمقراطية، فقد أعطت المرأة أيضاً المزيد من الشمولية وأضفت الديمقراطية على مساهمتها في المناقشات. هن موجودات على الانترنت، يضفن الاعجابات، يغردن، ينشرن، يكتبن، ويعبرن عن غضبهن وامتنانهن. وقد تميزت النساء بحضور خاص على الانترنت ومواصلة مكافحة الحروب الرقمية لجعل هذا الوجود مريحاً وكبيراً على حد سواء.
في الأسابيع الأخيرة، تعرضت صحفية لهجوم عنيف من قبل المثقفين الرقميين كما عبرت في عمودها عما اعتبروه منظوراً متحيز جنسياً ومذهبياً على موسيقيات الزنق (الموسيقيات مثل نجف غرزة، رشا خور، الزنجية، الخ). إنتشر عمودها مثل النار في الهشيم واستمرت التعليقات في التدفق من المثقفين الرقميين وأتباعهم الذين شاركوا وعلقوا على العمود. إذا كنت في أي مكان بالقرب من المجال الرقمي، سوف تعرف أن الحروب على الانترنت هي حقيقية وفي مكان حيث الجميع لديه رأي ولديه منصة لمشاركتها، لا أحد سوف يهز رأسه إيجابا لك. في يوم ما، يمكن أن تتوقفوا عن كونكم رموز معروفة في وسائل التواصل الاجتماعي وستصبحون شخصيات ضائعة. ينقص عدد المتابعين، تنخفض اعداد الإعجابات والمشاركات لما تكتبونه وعليكم أن تعملوا بجد للحصول على الوضع السابق مرة أخرى.
الفجوة بين الأجيال
هناك فجوة بين الأجيال الحديثة والمعاصرة والأجيال الأكبر سناً. الأجيال الأكبر سناً لا يفهمون هؤلاء المثقفين المعاصرين وفي بعض الأحيان، يتجاهلونهم. فهم لا يستطيعون أخذهم على محمل الجد، على حد تعبير المثقفين التقليديين: “كيف يمكن أن تؤخذ على محمل الجد إذا كنت تتكلم ما يعتبر عن كثب “راندوك “؟
إن الأجيال الأكبر سنا تريد أن ترى المثقفين المعاصرين يتبنون استراتيجياتهم و تتحدث من داخل إنجازاتهم. يسألون عما إذا كان بإمكانهم كتابة كتاب، إذا كان بإمكانهم كتابة شيء يتجاوز وضع 300 كلمة في الفيسبوك أو 140 حرف على تويتر أو مدونة من 500 كلمة. يسألون إذا كان لديهم الوعي الكافي باللغة. إن المثقفين التقليديين أو كبار السن واثقون جدا من أنفسهم، فهم أجيال ثورة 1964 وانتفاضة عام 1985.
المثقفون المعاصرون هم نتاج الإخفاقات في عامي 1964 و1985، وكتاباتهم وفكرهم ينبع من الصراعات اليومية التي يواجهونها في بيئة معيبة و وطن عاجز، وخلق الروايات وصناعة الفكر من النضال اليومي من أجل البقاء على قيد الحياة في ظل القوانين الخانقة، والبيئة السياسية، والحريات الاجتماعية المقيدة.
المثقفون الرقميون على عكس الجيل الأكبر سناً متاحون جداً وهذا في حد ذاته يمكن أن يكون تحدياً، فالتواصل والضغط في كل وقت يمكن أن يسبب خسائر خطيرة عليهم. ومن المتوقع دائما أن يكونوا على الانترنت، ومن المتوقع أن يعطوا آراءهم، ويتوقع أن يتواصلوا مع قرائهم وأن يحصلوا على رأي دقيق على كل شيء.
ومن ناحية أخرى، تحاول الأجيال الأكبر سنا ببطء التنقل بين دوائر الفكر الحديث، وتنضم إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وتحاول مشاركة مقالاتها وكتاباتها عبر الإنترنت. ومع ذلك، فإنها لا يمكن أن تتكلم لغة العصر الرقمي، فهؤلاء المثقفون المعاصرون يعرفون كيفية جذب الإنتباه ويمكنهم التواصل بلغة تفهمها دائرة كبيرة. يقررون ما هو طلس -سفاسف الأمور-وما هو ليس كذلك.
من خلال أنماط التواصل الجديدة والتفاوتات بين الأجيال والحروب عبر الإنترنت، فإن البيئة التي تشكل تطور الفكر المعاصر ملحوظة. ستغير الطرق الجديدة التي تتشكل بها المعلومات والآراء البيئة المعرفية في السودان.
قدمت هذه المقالة في ندوة العقلانية، التي نظمت في الخرطوم بين 29 -30 من أبريل 2017، من قبل الجمعية السودانية للمعرفة.