عند ذكر الهند تقفز صورة هذه التحفة المعمارية ذات القصة الفاتنة إلى الأذهان، فهي تحفةٌ خلب جمالها لب العالم، ولكنه لم يكن أولى وجهاتي لأنني، عوضاً عن المعالم الأثرية، ممن تستهويهم المغامرة في ترحالهم أكثر، ولذلك فقد أتت زيارتي الأولى لتاج محل بعد أربعة أشهر. الصور القادمات يعرضن، فيما أرى، عجائب الهند الطبيعية الأكثر إثارة، صورٌ قمت بجمعها على إمتداد عدة رحلات.

في قلب جبال يكسو الثلج قممها، ويغطي الإخضرار الباذخ سفوحها، تكمن جبال الهملايا الأخّاذة، فقد شعرت بعظمة الله تعالى المتجلية في خلقه و وجدت نفسي مسبحاً الله. سبحان الله. أذكر انني في ذلك اليوم سهوت عن وجوب أن أبدأ النزول قبل حلول الظلام، فقد حل الظلام سريعاً وأنا في طريقي إلى الأسفل، وإنتابني التوتر بعد سقوط كلب كان يتبعني في الهاوية ، ولكن الله أنعم علي بالثبات بضوءٍ من خيط القمر. وخلال نزولي تفاقمت أعراض تسمم غذائي أصبت به في يومها، مما أدى إلى إبطاء وتيرتي في النزول. حينها أقسمت على عدم الشروع في رحلة تسلق يجب أن تستغرق يومين، في يومٍ واحد مرة أخرى. وفي 10:30 مساءً وصلت أخيراً إلى المدينة، إزدردت حبتي دواء وخلدت إلى سبات عميق منهياً فصول مغامرةٍ لن أنساها أبداً.

منتصبةٌ على إحدى هذه التلال المغطاة بغابات الصنوبر، والمحاطة بالطبيعة الخلابة، تقع وجهتي المفضلة للهروب من صخب العاصمة نيو دلهي. هذه المدينة الساحرة بإطلالتها البانورامية، تتمع بمناخ بارد نسبياً في الصيف نظراً لارتفاعها عن سطح البحر. ومما يزيدها جمالا تركيبتها الثقافية المكونة من سكانها المنفيين من هضبة التبت ممزوجةً بالثقافة الهندية والطراز المعماري الإستعماري البريطاني في بعض مبانيها. فمن هذه المدينة إنبثقت أغلب رحلاتي إلى أعالي جبال الهملايا.

أصبحنا و الصبح مملؤ بالهدوء، والسكينة، والطمأنينة، فبادرت بالنزول إلى المدينة مع رفاقي الثلاثة. ولكن نظراً لإصابة أحدهم أبطأت وتيرتي في المشي و تخلفت معه. ولكن سرعان ما إنشقت المجموعة إلى إثنين، ولم يكن بوسعي الإتصال بأي منهم لعدم وجود تغطية شبكية. لم يكن لأي من الرفاق من كان له سابق خبرة في هذا المكان سواي. حينها خطر ببالي عما إذا كانو سيتبعون المسار الصحيح للمدينة. شعرت بالراحة عند ذكر الله، فسبحان من بذكره تطمئن القلوب. عند وصولنا للمدينة وجدنا باقي المجموعة منبطحين على أسرتهم من التعب، فحمدنا الله على سلامتهم.

لم يكن من السهل التخطيط لرحلة إلى منطقتي كشمير ولاداخ الواقعتين وسط منطقة نزاعات على الحدود الهندية -الباكستانية-الصينية. بين مدينتي شريناجار و ليه، رحلة يومين بالسيارة عبر الطريق الوطني الرابط بينهما وسط أعالي جبال الهملايا، فهي رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر نظراً لوعورة الطريق. هذه القمم الشاهقة تحجب الأمطار الموسمية من عبورها، منهيةً إمتداد غطاء الغابات الجبلية.

بعد عبور قمة زوجي لا الواقعة على طريق شريناجار- ليه، يتغير شكل البيئة المحيطة بشكل كبير، قليل من المطر يهطل وراء هذه القمم مؤدياً إلى تشكيل بيئة فريدة في جمالها، حيث تظهر عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وكمال صنعه، وبديع خلقه.

أثناء عبورنا طرق وعرة، وجبال صمدت أمام عوامل التعرية والتغيرات المناخية، مررنا ببلدة يعتقد أنها ثاني أبرد مكان مأهول بشكل دائم في العالم بعد سيبريا شاهدت حينها آية من آيات الله في خلقه، وتفكرت في بديع صنعه، فقد وصف الله عز وجل لنا الجبال وإختلاف ألوانها في القرآن.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ
الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ {سورة فاطر، اللآية ٢٧}

نهر السند يجري وسط جبال الهملايا مضيفاً بريقاً من الطلاء الفيروزي الأخاذ، فهذه المناظر الخلابة خففت عنا وعثاء السفر من الإرهاق، والوقوف المتكرر في نقاط التفتيش العسكرية المنتشرة لتسجيل بيانات المسافرين الأجانب.

رحب بنا وادي مدينة ليه مرتدياً حلة من ألوان الخريف الدافئة، و إستعرضت قمم جباله تيجانها الثلجية، فعندها أنهينا رحلتنا من مدينة شرينجار إلى مدينة ليه التي إستغرقت يومين. هذا الوادي يتيح لعشاق الطبيعة التمتع بمناظر خلابة وأجواء نقية، ويتميز أهله بطيبتهم وبشاشتهم. 

في بداية الخريف تساقط الثلج متوجاً الأزهار بقبلات شتوية، كأنما أتى معلناً أن وقت ذبول الأزهار قد حان. بالكاد تمكنت من تحريك يداي من شدة البرد، ولم تساعد القفازات في ذلك الإرتفاع الشاهق عن سطح البحر، حيث تشتد البرودة. شعرت بالدفء و الراحة عندما مررت بقصر قديم به بعض الشموع المضاءة.

كأننا عدنا إلى الماضي و سافرنا عبر العصور و الأزمنة، فها أنا أجد نفسي في منتصف طريقٍ تجاري قديم ربط بين الصين وآسيا الوسطى، ماراً بأعلى سلسلة جبال في العالم، جبال الهملايا. فلا يزال يتم بناء المنازل بالخشب، والحجر، والطين في منطقة لاداخ. فهنا تستخدم التقنيات الصديقة للبيئة التي تنبع من ثقافتهم، حيث تظهر بشكل ملحوظ في مجال العمارة والزراعة.

شعرت برغبة ثائرة دفعتني للشروع في رحلة تسلق شتوية. كان الطريق إلى أعلى الجبل محفوف بالمخاطر، فقد كان زلقاً ومكسواً بالثلوج. إنتاب المجموعة بعض التوتر الذي أدى إلى إختلاف وتيرة المشي، وبالتالي إنقسامها، فقبل دقائق من الوصول إلى القمة، قررت المجموعة المتأخرة إتخاذ مسار حجري شديد الإنحدار ولكنه كان خالٍ من الثلج، إعتقاداً منهم أنه أقل خطورة. ولكن سرعان ما وجدتهم عالقين على منحدر. أسرعت إلى المخيم في القمة لطلب المساعدة لإنقاذهم. قضينا ليلة شديدة البرودة في إحدى الأكواخ ونحن نخطط للنزول. وفي الصباح طلبنا من مرشد سياحي أن يساعدنا على النزول بمساعدة بعض معدات التسلق الشتوية.